حينما أصبحت عصفوراً ـ د.أيمن محمد الجندي

2011-10-12 21:56:42
  • الموضوع :

    الحمد لله على نعمته .. كم أسعدتني – في رحلة الحياة - هذه المخلوقات الجميلة التي تدعى العصافير!! ..صغيرة ، ظريفة ، فاتنة.. حتى ولو زعم العلماء أنها أبعد ما تكون عن الرقة ، وأن تغريدها - الذي نطرب له – سباب متبادل مع العصافير الأخرى حول مناطق الطعام والنفوذ.

    لكنني - بكامل إرادتي - أتجاهل هذه النظريات المزعجة ، وأرمقها في افتتان وهي تنطلق راقصة في أسراب لا يحصيها العد قبيل الغروب ، قبل أن تستقر على أغصانها لتنخرط في صلاة جماعية مؤثرة في انتظار النوم .

    العصافير تلعب !! ، هذا ما اكتشفته بعد مراقبة لصيقة ، والبحث عن الطعام لا يفسر أوضاع طيرانها المتهورة ، أحيانا تجرب النزول على الأرض ، والمشي قليلا ، بطريقة ظريفة ، ممتعة ومضحكة ، فهي لا تسير مثلنا ، بل تقفز في " عصفرة " منقطعة النظير ، وتبدو فخورة جدا بالمغامرة ، وبعد أن تشبع هوايتها في ممارسة الممنوع تطير بسرعة إلى ماما لتخبرها كم هي حلوة وشاطرة ! .

    ...........

    كنت طفلا صغيرا حينما شاهدت أول عصفور في حياتي ..تسلقت سور الشرفة المدعم بعواميد حديدية لأتطلع للطريق من خلاله ، شرعت أرمق العصفور فوجدته أسمر اللون شديد الظرف يحلق على غصن الشجرة ثم يطير في السماء ..غامرت بتقليده مرفرفا بذراعي على أمل الارتفاع .. وحينما ارتطمت بأرض الشرفة وارتفع صوت بكائي أسرعت أمي لتحملني بيدها الملوثة ببقايا الطبيخ ، طيبت خاطري وقبلتني لأكف عن البكاء ، وهي تنظر في قلق إلى أوان تطقطق على النار ، ثم أفلتتني برفق لتقلب بالمغرفة شيئا ما .. جلست على الأرض ووجهي منكس لأسفل ، وتكشيرة كبيرة ارتسمت على وجهي الزعلان ، وشفتي السفلى المقلوبة تعلن للكون أني متضايق وغضبان !!. كرامتي مجروحة يا ناس !!، فشلت فيما نجح فيه عصفور صغير !. ومن أين لي أن أعلم أن العصافير تطير لأن عظامها خفيفة تحتوي على جيوب هوائية متصلة بالرئتين تسهل ارتفاعها في الفضاء ؟ تخفق أجنحتها ببطء ثم تنحدر علي الهواء الذي يحملها في يسر .

    ......

    منذ ذلك الحين أراقبها بفضول لا يخلو من حسد ، وهي تمارس حياتها اليومية .تصنع أعشاشها على قمم الأشجار دون تصريح بناء !! لا يهز منها ريشة ارتفاع سعر الحديد والأسمنت !!.. وحتى فضلاتها تلقيها بوفرة فوق رأسي دون أن تفكر في الاعتذار ! ..تغرد وتنطلق خالية البال فيما يميتني الحزن كل يوم ، ثم لا يحييني !! ، وبعين الخيال أرى العصفورة الصغيرة تشير نحوي قائلة لمامتها العصفورة الكبيرة :

    - مامي ، شايفه الراجل اللي ماشي في الشارع ده !!

    فتلقي العصفورة الأم نحوي نظرة غير مكترثة ، وتقول :

    - آيوه ، ماله ؟

    - دايما اشوفه ماشي زعلان ، وشايل الدنيا فوق راسه .

    فتلقي العصفورة الأم نظرة متفحصة ، ثم تقول :

    - آه صحيح ، باين عليه زعلان .

    - تفتكري ليه يا مامي ؟ جعان ؟ .

    فتهتز العصفورة من الضحك ، وتقول :

    - جعان أيه يا عبيطة !! ، ده تخين وشكله ما بيعملش حاجة غير أنه ياكل ! .

    فتتأمل العصفورة الصغيرة جسدها النحيل متحيرة ، وكأنها تقول لنفسها "ماما عندها حق " ، ثم تعاود السؤال :

    - أمال زعلان ليه يا مامي ؟

    فتقول الأم الخبيرة بأحوال البشر :

    - شوفي يا بنتي !! حاقولك كلمة تحطيها حلقة في ودانك ، البني آدم ، خصوصا الرجاله يموتوا في النكد ، وإن ما لقوش نكد يخترعوه .

    تفكر فيفي قليلا في كلام ماما ، تتذكر أنها لم تشاهد وجها سعيدا تقريبا ، البشر فعلا يحبون النكد ، بعكس العصافير التي إذا اطمأنت على طعامها ، وملئت بطنها استخفها المرح وانطلقت تلعب ، تطير خلف بعضها البعض وتتشاقى حنى موعد النوم ، بعدها يتبادلون الثرثرة على غصون الأشجار وتحكي كل عصفورة مغامرات اليوم ، ثم يغلبها النعاس فتنام على الشجرة خالية البال .

    هذه المرة تأخرت العصفورة الصغيرة في النوم ، راحت تتذكر وجهي الحزين المطفأ ، بلا مبرر معقول عندها ، ثم تنهدت بصوت مرتفع وقالت " حكمتك يا رب !! " ، بعدها رفعت جناحيها ، وصلت صلاة صغيرة لخالقها العظيم قائلة :

    - أحمدك يا رب إنك ما خلقتنيش إنسان ، وخلقتني عصفورة !!.

    .....................

    حوارات أتخيلها ولا اسمعها ، لكنها بالتأكيد تدور باستمرار من فوق رأسي ، وكلما شاهدتها تمارس معجزتها المحيرة - فيما أبقى أنا مسمرا إلى الأرض – عاودني حلمي الأول بالطيران ..يفسرون طيرانها بخفة وزنها وأفسره أنا بقلة أحزانها !!.. أقول لنفسي كيف ترتفع يا أيمن وفي قلبك كل هذا الحزن !! ..حاول الإغريقي "ددالوس "الارتفاع بجناحين مصنوعين من الشمع . يفسرون إخفاقه بحرارة الشمس التي أذابت الشمع ، والحقيقة أنه تنهد فذابت من حرارة التنهيدة !! .

    أشياء كثيرة تغيرت منذ محاولتي الأولى للطيران ، بيتي صار شركة كمبيوتر ، الشرفة لم تعد ملكي ، الشارع لا أجرؤ على المرور فيه ، أمي لم تعد موجودة ! ، ذهبت يداها الحبيبتان الملوثتان ببقايا الطبيخ ، وحين اسقط ويرتفع بكائي ، وكثيرا ما صرت أسقط ويرتفع بكائي !! ، لا أجد ماما لتحملني وتطيب من خاطري !.

    لم يعد أمامي سوى أن أصبح كالعصافير كي أطير !! ، أتخلص من متعلقاتي الأرضية لألحق بالسماء . أترك أشيائي المعوقة ..في عرض الطريق أمام العابرين رميت هاتفي ، مفاتيحي ، ذكرياتي ، حقيبة مدرستي ، نظارتي ، ساعتي ، مكاسبي ، خسائري ، مصائبي ، ، خيبة أملي ، حزنا يسكن قلبي ، دمعة تترقرق في عيني ، أشعاري الساذجة ، أول فتاة أحببتها ، صورة بالأبيض والأسود . كل ذلك رميته ، لم أتردد لحظة . الأفق الأزرق يناديني ، يهمس أن أمي هناك ، مع العصافير المحلقة ، في عنان السماء . مع رائحة الطبيخ ، وأوان على النار تطقطق ، يثور حنيني ، ، يجن جنوني ، أنضو ملابسي ، أخلع حذائي ، أرمي جوربي ، أنزع سروالي ، أمزق قميصي وأحلامي ، ثم أركض في الطريق كالمفتون ، مرفرفا بذراعي على أمل الارتفاع !!

    يشكر الموقع الدكتور ايمن الجندي على تزويدنا بهذه المقالة ..و ننتظر منه المزيد ..